فصل: النوع العاشر: في الحروف العاطفة والجارة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.النوع العاشر: في الحروف العاطفة والجارة:

وهذا موضع لطيف المؤخذ، دقيق المغزى، وما رأيت أحدا من علماء هذه الصناعة تعرض إليه ولا ذكره، وما أقول إنهم لم يعرفوه، فإن هذا النوع من الكلام أشهر من أن يخفى، لأنه مذكور في كتب العربية جميعها، ولست أعني يإيراده هاهنا ما يذكره النحويون من أن الحروف العاطفة تتبع المعطوف المعطوف عليه في الإعراب، ولا أن الحروف الجارة تجر ما تدخل عليه، بل أمرا وراء ذلك وإن كان المرجع فيه إلى الأصل النحوي فأقول: إن أكثر الناس يضعون هذه الحروف في غير مواضعها، فيجعلون ما ينبغي أن يجر بعلى بفي في حروف الجر، وفي هذه الأشياء دقائق أذكرها لك.
أما حروف العطف فنحو قوله تعالى: {والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين} فالأول عطفه بالواو التي هي للجمع، وتقديم الإطعام على الإسقاء والإسقاء على الإطعام جائز لولا مراعاة حسن النظم، ثم عطف الثاني بالفاء، لأن الشفاء يعقب المرض بلا زمان خال من أحدهما، ثم عطف الثالث بثم، لأن الإحياء يكون بعد الموت بزمان، ولهذا جيء في عطفه بثم التي هي للتراخي، ولو قال قائل في موضع هذه الآية الذي يطعمني ويسقين ويمرضني ويشفين ويميتني ويحيين لكان الكلام معنى تام إلا أنه لا يكون كمعنى الآية، إذ كل شيء منها قد عطف بما يناسبه ويقع موقع السداد منه.
ومما جاء من هذا الباب قوله تعالى: {قُتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقره ثم إذا شاء أنشره} ألا ترى أنه لما قال: {من نطفة خلقه} كيف قال: {فقدره} ولم يقل ثم قدره، لأن التقدير لما كان تابعا للخلقة وملازما لها عطفه عليها بالفاء وذلك بخلاف قوله: {ثم السبيل يسره} لأن بين خلقته في بطن أمه وبين إخراجه منه وتسهيل سبيله مهلة وزمانا، فلذلك عطفه بثم، وعلى هذا جاء قوله تعالى: {ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره} لأن بين إخراجه من بطن أمه وبين موته تراخيا وفسحة، وكذلك بين موته ونشوره أيضا، ولذلك عطفهما بثم، ولما لم يكن بين موت الإنسان وإقباره تراخ ولا مهلة عطفه بالفاء وهذا موضع من علم البيان شريف، وقلما يتفطن لاستعماله كما ينبغي.
ومما جاء من ذلك أيضاً قوله تعالى في قصة مريم وعيسى عليهما السلام: {فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} وفي هذه الآية دليل على أن حملها به ووضعها إياه كانا متقاربين، لأنه عطف الحمل والانتباذ إلى المكان الذي مضت إليه والمخاض الذي هو الطلق بالفاء، وهي للفور ولو كانت كغيرها من النساء لعطف بثم التي هي للتراخي والمهلة، ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى: {قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره} فلما كان بين تقديره في البطن وإخراجه منه مدة متراخية عطف ذلك بثم، وهذا خلاف قصة مريم عليها السلام، فإنها عطفت بالفاء وقد اختلف الناس في مدة حملها، فقيل: إنه كان كحمل غيرها من النساء، وقيل: لا، بل كان مدة ثلاثة أيام، وقيل: أقل، وقيل: أكثر، وهذه الآية مزيلة للخلاف، لأنها دلت صريحا على أن الحمل والوضع كانا متقاربين على الفور من غير مهلة، وربما كان ذلك في يوم واحد أو أقل، أخذا بما دلت عليه الآية.
ومما ورد من هذا الأسلوب قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر} ففي الآية المتقدم ذكرها قال: {من نطفة خلقه فقدره} فعطف التقدير على الخلق بالفاء، لأنه تابع له، ولم يذكر تفاصيل حال المخلوق، وفي الآية ذكر تفاصيل حاله في تنقله فبدأ بالخلق الأول، وهو خلق آدم من طين، ولما عطف عليه الخلق الثاني الذي هو خلق النسل عطفه بثم، لما بينهما التراخي، وحيث صار إلى التقدير الذي يتبع بعضه بعضا من غير تراخ عطفه بالفاء، ولما انتهى إلى جعله ذكرا أو أنثى وهو آخر الخلق عطفه بثم.
فإن قيل: إنه قد عطف المضغة على العلقة في هذه الآية بالفاء، وفي أخرى بثم، وهي قوله تعالى: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة} فالجواب عن ذلك.
واعلم أن في حروف العطف موضعا تلتبس فيه الفاء بالواو، وهو موضع يحتاج فيه إلى فضل تام، وذلك أن فعل المطاوعة لا يعطف عليه إلا بالفاء، دون الواو، وقد يجيء من الأفعال ما يلتبس بفعل المطاوعة، ويعطي ظاهره أنه كذلك إلا أن معناه يكون مخالفا لمعنى فعل المطاوعة فيعطف حينئذ بالواو، ويعطي ظاهره أنه كذلك إلا أن معناه يكون مخالفا لمعنى فعل المطاوعة فيعطف حينئذ بالواو، لا بالفاء، كقوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} فقوله: {أغفلنا قلبه} هاهنا بمعنى صادفناه غافلا، وليس منقولا عن غفل حتى يكون معناه صددناه،، لأنه لو كان كذلك لكان معطوفا عليه بالفاء، وقيل: فاتبع هواه، وذلك أنه يكون مطاوعا، وفعل المطاوعة لا يعطف إلا بالفاء كقولك: أعطيته فأخذ أو دعوته فأجاب، ولا تقول أعطيته وأخذ، ولا دعوته وأجاب، كما لا يقال: كسرته وانكسر، وكذلك لو كان معنى أغفلنا في الآية صددنا ومنعنا لكان معطوفا عليه بالفاء، وكان يقال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه، فلما لم يكن كذلك وكان العطف عليه بالواو، فطريقة أنه لما قال: {أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} أن يكون معناه وجدناه عاقلا فقد غفل لا محالة، فكأنه قال: ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا واتبع هواه أي لا تطع من فعل كذا وكذا، يعدد أفعاله التي توجب ترك طاعته، فاعرف ذلك.
وأما حروف الجر فإن الصواب يشذ عن وضعها في مواضعها، وقد علم أن في للوعاء، وعلى للاستعلاء كقولهم زيد في الدار، وعمرو على الفرس، لكن إذا أريد استعمال ذلك في غير هذين الموضعين مما يشكل استعماله عدل فيه عن الأولى.
فمما ورد منه قوله تعالى: {قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} ألا ترى إلى بداعة هذا المعنى المقصود لمخالفة حرفي الجر هاهنا، فإنه إنما خولف بينهما في الدخول على الحق والباطل لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركض به حيث شاء، وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام منخفض فيه لا يدري أين يتوجه، وهذا معنى دقيق قلما يراعى مثله في الكلام، وكثيرا ما سمعت إذا كان الرجل يلوم أخاه أو يعاتب صديقه على كل أمر من الأمور، فيقول له: أنت على ضلالك القديم كما أعهدك، فيأتي بعلى في موضع في، وإن كان هذا جائزا إلا أن استعمال في هاهنا أولى، لما أشرنا إليه ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة يوسف: {قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم}.
ومن هذا النوع قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل} فإنه إنما عدل عن اللام إلى في في الثلاثة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره باللام، لأن في للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات كما يوضع الشيء في الوعاء، وأن يجعلوا مظنة لها، وذلك لما في فك الرقاب وفي الغرم من التخلص، وتكرير في في قوله: {وفي سبيل الله} دليل على الرقاب وعلى الغارمين، وسياق الكلام أن يقال: وفي الرقاب والغارمين وسبيل الله وابن السبيل، فلما جيء بفي ثانية وفصل بها بين الغارمين وبين سبيل الله علم أن سبيل الله أوكد في استحقاق النفقة فيه، وهذه لطائف ودقائق لا توجد إلا في هذا الكلام الشريف، فاعرفها وقس عليها.

.النوع الحادي عشر: في الخطاب بالجملة الفعلية والجملة الاسمية والفرق بينهما:

ولم أذكر هذا الموضع لأن يجري الأمر فيه على ما جرى مجراه فقط بل لأن يقاس عليه مواضع أخرى مما تماثله وتشابهه، ولو كان شبها بعيدا.
وإنما يعدل عن أحد الخطابين إلى الآخر لضرب التأكيد والمبالغة.
فمن ذلك قولنا: قام زيد وإن زيدا قائم، فقولنا قام زيد معناه الإخبار عن زيد بالقيام، وقولنا إن زيد قائم معناه الإخبار عن زيد بالقيام أيضا، إلا أن في الثاني زيادة ليست في الأول، وهي توكيده بإن المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدها، وإذا زيد في خبرها اللام فقيل: إن زيدا لقائم، كان ذلك أكثر توكيدا في الإخبار بقيامه، وهذا مثال ينبني عليه أمثلة كثيرة من غير هذا النوع.
فمما جاء من ذلك قوله تعالى: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم} فإنهم إنما خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالجملة الاسمية المحققة بإن المشددة لأنهم في مخاطبة إخوانهم بما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اعتقاد الكفر والبعد من أن يزلوا عنه على صدق ورغبة ووفور نشاط، فكان ذلك متقبلا منهم، ورائجا عند إخوانهم وأما الذي خاطبوا به المؤمنين، فإنما قالوا تكلفا وإظهارا للإيمان خوفا ومداجاة، وكانوا يعلمون أنهم لو قالوه بأوكد لفظ وأسده لما راج لهم عند المؤمنين إلا رواجا ظاهرا لا باطنا، ولأنهم ليس لهم في عقائدهم باعث قوي على النطق في خطاب المؤمنين بمثل ما خاطبوا به إخوانهم من العبارة المؤكدة، فلذلك قالوا في خطاب المؤمنين: {آمنا} وفي خطاب إخوانهم: {إنا معكم} وهذه نكت تخفى على من ليس له قدم راسخة في علم الفصاحة والبلاغة.
ومما يجري هذا المجرى ورود لام التوكيد في الكلام، ولا يجيء ذلك إلا لضرب من المبالغة، وفائدته أنه إذا عبر عن أمر يعز وجوده أو فعل يكثر وقوعه جيء باللام تحقيقا لذلك فمما جاء منه قوله تعالى في أول سورة المنافقين: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} فانظر إلى هذه اللامات الثلاثة الواردة خبر إن، والأولى وردت في قول المنافقين، وإنما وردت مؤكدة لأنهم أظهروا من أنفسهم التصديق برسالة النبي وتملقوا وبالغوا فيه، واللام في الثانية لتصديق رسالته وفي الثالثة لتكذيب المنافقين فيما كانوا يظهرونه من التصديق الذين هم على خلافه.
وكذلك ورد قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: {قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون} فإنه إنما جيء باللام هاهنا لزيادة التوكيد في إظهار المحبة ليوسف عليه السلام والإشفاق عليه ليبلغوا الغرض من أبيهم في السماحة بإرساله معهم ومن هذا قوله تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون} ثم قال: {أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون فلو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون} ألا ترى كيف أدخلت اللام في آية المطعوم دون آية المشروب وإنما جاءت كذلك لأن جعل الماء العذب، وكثيرا في العرف والعادة والموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذب، وكثيرا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحا إلى زيادة تأكيد، فلذلك لم تدخل عليه لام التأكيد المفيدة زيادة التحقيق، وأما المطعوم فإن جعله حطاما من الأشياء الخارجة عن المعتاد وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط من الله شديد، فلذلك قرن بلام التأكيد زيادة في تحقيق أمره وتقريره إيجاده.
ومما يتصل بذلك قوله تعالى: {وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون} واللام في: {لنحن} هي اللام المشار إليها.
وكذلك ورد قوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا} فإن هذه اللام في قوله: {ليستخلفنهم} و{ليمكنن} و{ليبدلنهم} إنما جاءت لتحقيق الأمر وإثباته في نفوس المؤمنين وأنه كائن لا محالة.
ومما يجري هذا المجرى في التوكيد لام الابتداء المحققة لما يأتي بعدها، كقوله تعالى: {إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا} فاللام في: {ليوسف} لام الابتداء، وفائدتها تحقيق مضمون الجملة الواردة بعدها: أي أن زيادة حبه إياهما أمر ثابت لا مراء فيه.
ومن هذا النوع قول بعضهم:
والشيب إن يظهر فإن وراءه ** عمرا يكون خلاله متنفس

لم ينتقص مني المشيب قلامة ** ولما بقي مني ألب وأكيس

فقوله ولما بقي مني تقديره وما بقي مني، وإنما أدخل على ما هذه اللام قصداً لتأكيد المعنى، لأنه موضع يحتاج إلى التأكيد، ألا ترى أن قوة العمر في الشباب، ولما أراد هذا الشاعر أن يصف الشيب، وليس مما يوصف وإنما يذم، أتى باللام لتؤكد ما قصده من الصفة.
وكذلك ورد قول الشاعر من أبيات الحماسة:
إنا لنصفح عن مجاهل قومنا ** ونقيم سالفة العدو الأصيد

ومتى نجد يوما فساد عشيرة ** نصلح وإن نر صالحا لا نفسد

وهذا كثير سائغ في الكلام، إلا أنه لا يتأتى لمكان العناية بما يعبر به عنه، ألا ترى ألى قول الشاعر: إنا لنصفح عن مجاهل قومنا فإنه لما كان الصفح مما يشق على النفس فعله، لأنه مقابلة الشر بالخير والإساءة بالإحسان، أكده باللام، تحقيقا له. فإن عرى الموضع الذي يؤتى فيه بهذه اللام من هذه الفائدة المشار إليها وما يجري مجراه، فإن ورود اللام فيه لغير سبب اقتضاه. وأكثر ما تستعمل هذه اللام في جواب القسم لتحقيق الأمر المقسم عليه، وذلك في الإيجاب، دون النفي، لأنها لا تستعمل في النفي، ألا ترى أنه لا يقال: والله للا قمت، وإنما يقال: والله لا قمت، لكن في الإيجاب تستعمل، ويكون استعمالها حسنا، كقولك: والله لأقوم، فإن أضيف إليها النونان الخفيفة والثقيلة كان ذلك أبلغ في التأكيد كقولك: والله لأقومن وعلى ذلك وردت الآية المتقدم ذكرها، وهي قوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات} وإن لم يكن جواباً للقسم فالنون الواردة بعد اللام زيادة في التأكيد، وهما تأكيدان أحدهما مردف بالآخر.
وكذلك فاعلم أن النون الثقيلة متصلة بهذا الباب، فإذا استعملت في موضع فإنما يقصد بها التأكيد.
فمما جاء منها قول البحتري في معاتبة الفتح بن خاقان:
هل يجلبن إلي عطفك موقف ** ثبت لديك أقول فيه وتسمع

ما زال لي من حسن رأيك موئل ** آوي إليه من الخطوب ومفزع

فعلام أنكرت الصديق وأقبلت ** نحوي جناب الكاشحين تطلع

وأقام يطمع في تهضم جانبي ** من لم يكن من قبل فيه يطمع

إلا يكن ذنب فعدلك واسع ** أو كان لي ذنب فعفوك أوسع

وهذه أبيات حسنة مليحة في بابها، يمحى بها حر الصدود، ويستمال بها صعر الخدود، وإنما ذكرتها بجملتها لمكان حسنها، والبيت الأول هو المراد، ألا ترى أنه قال: هل يجلبن إلي عطفك موقف فالنون جاءت قصداً للتأكيد، وهو في هذا المقام ممتن فأحب أن يؤكد هذه الأمنية، وكل ما يجيء من هذا الباب فإنه واقع هذا الموقع، وإذا استعمل عبثا لغير فائدة تقتضيه فإنه لا يكون استعماله إلا من جاهل بالأسرار المعنوية، وأما ما يمثل به النحاة من قول القائل: والله لأقومن، فإنه مثال نحوي يضرب للجواز، وإلا فإذا قال القائل: والله لأقومن، وأكده، كان ذلك لغوا لأنه ليس في قيامه من الأمر العزيز ولا من الأمر العسير ما يحتاج معه إلى التأكيد، بل لو قال والله لأقومن لك، مهددا له، لكان ذلك واقعا في موقعه، فافهم هذا وقس عليه.

.النوع الثاني عشر: في قوة اللفظ لقوة المعنى:

هذا النوع قد ذكره أبو الفتح بن جني في كتاب الخصائص إلا أنه لم يورده كما أوردته أنا، ولا نبه على ما نبهت عليه من النكت التي تضمنته، وهذا يظهر بالوقوف على كلامي وكلامه فأقول: اعلم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر أكثر منه فلا بد من أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا، لأن الألفاظ أدلة على المعاني، وأمثلة للإبانة عنها، فإذا زيد في الألفاظ أوجبت القسمة زيادة المعاني، وهذا لا نزاع فيه لبيانه، وهذا النوع لا يستعمل إلا في مقام المبالغة.
فمن ذلك قولهم: خشن واخشوشن، فمعنى خشن دون معنى اخشوشن، لما فيه من تكرير العين وزيادة الواو نحو فعل وافعوعل، وكذلك قولهم: أعشب المكان، فإذا رأوا كثرة العشب قالوا: اعشوشب.
ومما ينتظم بهذا السلك قدر واقتدر، فمعنى اقتدر أقوى من معنى قدر قال الله تعالى: {فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} فمقتدر هنا أبلغ من قادر، وإنما عدل إليه للدلالة على تفخيم الأمر وشدة الأخذ الذي لا يصدر إلا عن قوة الغضب، أو للدلالة على بسطة القدرة، فإن المقتدر أبلغ في البسطة من القادر، وذاك أن مقتدرا اسم فاعل من اقتدر، وقادر اسم فاعل من قدر، ولا شك أن افتعل أبلغ من فعل.
على هذا ورد قول أبي نواس:
فعفوت عني عفو مقتدر ** حلت له نقم فألفاها

أي عفوت عني عفو قادر متمكن القدرة لا يرده شيء عن إمضاء قدرته، وأمثال هذا كثيرة.
وكذلك ورد قوله تعالى في سورة نوح عليه السلام: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا} فإن غفارا أبلغ في المغفرة من غافر، لأن فعالا يدل على كثرة صدور الفعل، وفاعلا لا يدل على الكثرة عليه ورد قوله تعالى: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} فالتواب هو الذي تتكرر منه التوبة مرة على مرة، وهو فعال وذلك أبلغ من التائب الذي هو فاعل، فالتائب اسم فاعل من تاب يتوب فهو تائب، أي صدرت التوبة مرة واحدة، فإذا قيل: تواب، كان صدور التوبة منه مرارا كثيرة.
وهذا وما يجري مجراه إنما يعمد إليه لضرب من التوكيد، ولا يوجد ذلك إلا فيما معنى الفعلية كاسم الفاعل والمفعول، وكالفعل نفسه، نحو قوله تعالى: {فكُبكبوا فيها هم والغاوون} فإن معنى كبكبوا من الكب، وهو القلب، إلا أنه مكرر المعنى، وإنما استعمل في الآية دلالة على شدة العقاب لأنه موضع يقتضي ذلك.
ولربما نظر بعض الجهال في هذا فقاس عليه زيادة التصغير وقال إنها زيادة، ولكنها زيادة نقص لأنه في اللفظ حرف، كقولهم في الثلاثي في رجل: رجيل، وفي الرباعي في قنديل: قنيديل، فالزيادة وردت هاهنا فنقصت من معنى هاتين اللفظتين، وهذا ليس من الباب الذي نحن بصدد ذكره، لأنه عار عن معنى الفعلية لأن الأسماء التي لا معنى للفعل فيها إذا زيدت استحال معناها، ألا ترى أنا لو نقلنا لفظة عذب، وهي ثلاثية إلى الرباعي فقلنا: عذ يب، على وزن جعفر، لاستحال معناها ولم يكن لها معنى، وكذلك لو نقلنا لفظة عسجد، وهي رباعية إلى الخماسي فقلنا: عسجدد، على وزن جحمرش، لاستحال معناها وهذا بخلاف ما فيه معنى الفعلية، كقادر ومقتدر، فإن قادرا اسم فاعل قدر، وهو ثلاثي، ومقتدرا اسم فاعل اقتدر، وهو رباعي، فلذلك كان معنى القدرة في اقتدر أشد من معنى القدرة في قدر، وهذا لا نزاع فيه.
وهذا الباب بجملته لا يقصد به إلا المبالغة في إيراد المعاني، وقد يستعمل في مقام المبالغة فينعكس المعنى فيه إلى ضده، كما جاء لأبي كرام التميمي من شعراء الحماسة وهو قوله:
لله تيم أي رمح طراد ** لاقى الحمام وأي نصل جلاد

ومحش حرب قدم متعرض ** للموت غير مكذب حياد

فلفظة حياد قد وردت هاهنا: وإنما أوردها هذا الشاعر وقصد بها المبالغة في وصف شجاعة هذا الرجل فانعكس عليه المقصد الذي قصده، لأن حيادا من حيد فهو حياد، أي وجد منه الحيدودة مرارا، كما يقال: قتل فهو قتال: أي وجد منه القتل مرارا، وإذا كان هذا الرجل غير حياد كان حائدا أي وجدت منه الحيدودة مرة واحدة، وإذا وجدت منه مرة كان ذلك جبنا، ولم يكن شجاعة، والأولى أن كان قال: غير مكذب حائد.
وينبغي أن يعلم أنه إذا وردت لفظة من الألفاظ ويجوز حملها على التضعيف الذي هو طريق المبالغة وحملها على غيره أن ينظر فيها، فإن اقتضى حملها على المبالغة فهو أوجه.
فمن ذلك قول البحتري في قصيدته التي مطلعها:
منى النفس في أسماء لو تستطيعها

وهي قصيدة مدح بها الخليفة المتوكل رحمه الله، وذكر فيها حديث الصلح بين بني تغلب، فمما جاء فيها قوله:
رفعت بضبعي تغلب ابنة وائل ** وقد يئست أن يستقل صريعها

فكنت أمين الله مولى حياتها ** ومولاك فتح يوم ذاك شفيعها

تألفتهم من بعد ما شردت بهم ** حفائظ أخلاق بطيء رجوعها

فأبصر غاويها المحجة فاهتدى ** وأقصر غاليها ودانى شسوعها

فقوله تألفتهم من بعد ما شردت بهم يجوز أن تخفف لفظة شردت ويجوز أن تثقل والتثقيل هو الوجه، لأنه في مقام الإصلاح بين قوم تنازعوا واختلفوا، وتباينت قلوبهم وآراؤهم، وكل ما يجيء من الألفاظ على هذا النحو فينبغي أن يجري هذا المجرى.
وهنا نكتة لا بد من التنبيه عليها، وذلك أن قوة اللفظ لقوة المعنى لا تستقيم إلا في نقل صيغة إلى صيغة أكثر منها، كنقل الثلاثي إلى الرباعي، وإلا فإذا كانت صيغة الرباعي مثلا موضوعة لمعنى فإنه لا يراد به ما أريد من نقل الثلاثي إلى مثل تلك الصيغة، ألا ترى أنه إذا قيل في الثلاثي قتل ثم نقل إلى الرباعي فقيل قتّل بتشديد التاء فإن الفائدة من هذا النقل هي التكثير: أي أن القتل وجد منه كثيرا، وهذا الصيغة الرباعية بعينها لو وردت من غير نقل لم تكن دالة على التكثير، كقوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} فإن كلم على وزن قتل، ولم يرد به التكثير، بل أريد به أنه خاطبه، سواء كان خطابه إياه طويلا أو قصيرا، قليلا أو كثيرا، وهذه اللفظة الرباعية، وليس لها ثلاثي نقلت عنه إلى الرباعي لكن قد وردت بعينها ولها ثلاثي ورباعي فكان الرباعي أكثر وأقوى فيما دل عليه من المعنى، وذاك أن تكون كلّم من الجرح أي جرح، ولها ثلاثي وهو كَلم مخففا: أي جرح، فإذا وردت مخففة دلت على الجراحة مرة واحدة وإذا وردت مثقلة دلت على التكثير.
وكذلك ورد قوله تعالى:: {ورتل القرآن ترتيلا} فإن لفظة رتل على وزن لفظة قتل، ومع هذا ليست دالة على كثرة القراءة، وإنما المراد بها أن تكون القراءة على هيئة التأني والتدبر، وسبب ذلك أن هذه اللفظة لا ثلاثي لها حتى تنقل عنه إلى رباعي وإنما هي رباعية موضوعة لهذه الهيئة المخصوصة من القراءة وعلى هذا فلا يستقيم معنى الكثرة والقوة في اللفظ والمعنى إلا بالنقل من وزن إلى وزن أعلى منه، فاعرف ذلك.
ومن هاهنا شذ الصواب عمن شذ عنه في عالم وعليم، فإن جمهور علماء العربية يذهبون إلى أن عليما أبلغ في معنى العلم من عالم، وقد تأملت ذلك وأنعمت نظري فيه، فحصل عندي شك في الذي ذهبوا إليه، والذي أوجب ذلك الشك هو أن عالما وعليما على عدة واحدة، إذ كل منهما أربعة أحرف، وليس بينهما زيادة ينقل فيها الأدنى إلى الأعلى، والذي يوجبه النظر أن يكون الأمر على عكس ما ذكروه، وذاك أن يكون عالم أبلغ من عليم، وسببه أن عالما اسم فاعل من علم وهو متعد، وأن عليما اسم فاعل من علم، إلا أنه أشبه وزن الفعل القاصر، نحو شرف فهو شريف، وكرم فهو كريم، وعظم فهو عظيم، فهذا الوزن لا يكون إلا في الفعل القاصر، فلما أشبهه عليم انحط عن رتبة عالم الذي هو متعد، ألا ترى أن فعل بفتح الفاء وكسر العين يكون متعديا نحو علم وحمد، ويكون قاصرا غير متعد ولما كان فعل بفتح الفاء وكسر العين مترددا بين المتعدي والقاصر، وكان فعل بفتح الفاء وضم العين قاصرا غير متعد، صار القاصر أضعف مما يدور بين المتعدي والقاصر، وحيث كان الأمر كذلك وأشبه وزن المتعدي وزن القاصر حط ذلك من درجته، وجعله في الرتبة دون المتعدي الذي ليس بقاصر هذا هو الذي أوجب التشكيك فيما ذهب إليه غيري من علماء العربية، ولربما كان ما ذهبوا إليه لأمر خفي عني ولم أطلع عليه.